الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: خزانة الأدب وغاية الأرب ***
حنّت قلوصي حين لا حين محن على أنّ الشاعر أضاف حين الأول إلى الجملة، كما تقول: حين لا رجل في الدار، أي: حين لا حين حنينٌ حاصل. قال الأعلم: الشاهد فيه نصب حين بلا التبرئة وإضافة حين إلى الجملة وخبر لا محذوف والتقدير حين لا حين محنٍّ لها، أي: حنّت في غير وقت الحنين. ولو جررت الحين على إلغاء لا جاز. والقلوص: النّاقة الشّابة بمنزلة الجارية من الأناسيّ. وحنينه: صوتها شوقاً إلى أصحابها. والمعنى أنّها حنّت إليها على بعدٍ منها، ولا سبيل لها إليها. انتهى. وقدّر ابن الشجريّ الخبر لنا، بالنون، والصواب ما قبله. وجوّز أبو علي في المسائل المنثورة الحركات الثلاث في حين الثاني: النصب على إعمال لا عمل إنّ، والرفع على إعمالها عمل ليس، والجرّ على إلغائها وإضافة حين الأوّل إلى الثاني. وقال أبو عليّ في التذكرة القصرية لا يقدّر للا هذه في رواية النصب خبر، فإنه قال عند الكلام على قولهم: ألا ماء بارد: قال المازنيّ: يرفع بارد على أنه خبر ويجوز على قياس قوله، أن يرتفع لأنّه صفة ماء ويضمر الخبر. ويجوز نصبه على قوله أيضاً على أنه صفة والخبر مضمر، ويجوز على قياس سيبويه ومن عدا المازني ألا ماء بارد بلا تنوين، إلاّ أنّك لا تضمر لها خبراً لأنها مع معمولها الآن بمنزلة اللفظة الواحدة، كقولهم: جئت بلا مال وغضبت من لا شيء، أي: بفتحهما، فلا يلزمك إضمار الخبر في هذه المسألة. ومثله قوله: حنّت قلوصي حين لا حين محن أضاف حين إليهما كما تضيفه إلى المفرد. وقد يحتمل هذا عندي أن يكون إضافة إلى جملة والخبر محذوف، كما يضاف أسماء الزمان إلى الجمل، وذلك لأنّ حنت ماض، فحين بمعنى إذ، وهي مما يضاف إلى المبتدأ والخبر. فأما قوله حين لا حين فالثاني غير الأوّل، لأنّ الحين يقع على الكبير واليسير من الزمان، قال: الطويل تطلقه حيناً وحيناً تراجع ولا زائدة، ولا تكون غير زائدة لما في ذلك من النقض. وقالوا في قوله تعالى: {تؤتى أكلها كلّ حين: ستّة أشهر، فيكون على هذا حين حين من إضافة البعض إلى الكلّ نحو: حلقة فضّة، وعيد السّنة، وسبت الأسبوع، فلا يكون إضافة الشيء إلى نفسه. ومثله قول الفرزدق: الوافر ولولا يوم يومٍ ما أردن *** جزاءك والقروض لها جزاء فيومٌ الأوّل وضح النّهار، والثاني البرهة كالتي في قوله: ومن يولهم يومئذ دبره والأمر يومئذ لله . وأنشد أبو عمرو: مجزوء الكامل حبّذا العرصات يوم *** في ليالٍ مقمرات فقال يوماً في ليال، أراد المرّة دون العاقب لليل. انتهى. وهذا البيت من أبيات سيبويه الخمسين التي لا يعرف قائلها ولا تتمة لها. والله أعلم بحقيقة الحال. وأنشد بعده: وهو وهو من أبيات سيبويه: ما بال جهلك بعد الحلم والدّين *** وقد علاك مشيبٌ حين لا حين على أنّ الأولى أن تكون لا فيه زائدة لفظاً ومعنى. قال سيبويه: إنّما أراد حين حين، ولا بمنزلة ما إذا ألغيت. قال الأعلم: وإنّما أضاف الحين إلى الحين لأنّه قدر أحدهما بمعنى التوقيت، فكأنه قال: حين وقت حدوثه ووجوبه، هذا تفسير سيبويه. ويجوز أن يكون المعنى: ما بال جهلك بعد الحلم والدين، حين لا حين جهلٍ وصبا، فتكون لا لغواً في اللفظ دون المعنى انتهى. ولم يتنبّه ابن الشّجريّ في أماليه لمراد سيبويه بعد نقل عبارته، ففهم أنّ لا زائدة لفظاً فقط فقال: حين الأوّل مضاف إلى الثاني، وفصلت لا بين الخافض والمخفوض كفصلهما في جئت بلا شيء، كأنه قال: حين لا حين لهو فيه ولعب، ونحو ذلك من الإضمار، لأنّ المشيب يمنع من اللهو واللعب. هذا كلامه، وقد أورده في معرض الشرح لكلام سيبويه. وقد طبّق المفصّل أبو عليّ الفارسيّ في الحجة في الكلام على آخر سورة الفاتحة، قال: لا فيه زائدة، والتقدير: وقد علاك مشيبٌ حين حين، وإنّما كانت زائدة لأنّك إن قلت: علاك مشيبٌ حيناً فقد أثبتّ حيناً علاه فيه المشيب. فلو جعلت لا غير زائدة لوجب أن تكون نافية على حدّها في قولهم: جئت بلا مال فنفيت ما أثبت من حيث كان النفي بلا عاماً منتظماً لجميع الجنس، فلمّا لم يستقم حمله على النفي للتدافع العارض في ذلك، حكمت بزيادتها، فصار التقدير: حين حين. وهذه الإضافة من باب حلقة فضة: لأنّ الحين يقع على الزمان القليل كالساعة ونحوها، يدلّ على ذلك قوله: تطلقه حيناً وحيناً تراجع ويقع على الزمان الطويل كقوله تعالى: {هل أتي على الإنسان حين من الدّهر ، وعلى ما هو أقصر من ذلك كقوله تعالى: {تؤتى أكلها كل حينٍ ، فصار حين حين كقول الآخر: ولولا يوم يومٍ ما أردن *** جزاءك والقروض لها جزاء وليس هذا كقوله: حنّت قلوصي حين لا حين محن لأنّه في قوله لا حين محن، نافٍ حيناً مخصوصاً لا ينتفي بنفيه جميع الأحيان، كما كان ينتفي بالنفي العامّ جميعها؛ فلم يلزم أن تكون لا زائدة في هذا البيت كما لزم لزيادتها في حين لا حين. فهذا الحرف يدخل في النّكرة على وجهين: أحدهما أن يكون زائداً كما مرّ في بيت جرير، والآخر أن يكون غير زائد. فإذا لم يكن زائداً كان على ضربين: أحدهما: أن تكون لا مع الاسم بمنزلة اسم واحد نحو خمسة عشر ونحو غضبت من لا شيء فلا مع الاسم المنكور في موضع جرّ بمنزلة خمسة عشر، ولا ينبغي أن يكون من هذا الباب قوله: حنّت قلوصي حين لا حين محن لأن حين هنا منصوب نصباً صحيحاً، لإضافته، ولا يجوز بناء المضاف مع لا كما جاز بناء المفرد معها؛ وإنّما حين في البيت مضافة إلى جملة كما أنها في قوله تعالى: {حين لا يكفون عن وجوههم النّار ، إلاّ أنّ الخبر محذوف وخبر لا يحذف كثيراً. ونظير هذا في حذف الخبر من الجملة المضاف إليها ظرف الزمان قولهم: كان هذا إذ ذاك. والآخر أن لا تعمل في اللفظ ويراد بها معنى النفي، فتكون صورتها صورة الزيادة ومعنى النفي فيه مع هذا صحيح، كقول النابغة: البسيط أمسى ببلدة لا عمّ ولا خال وقال الشمّاخ: الوافر إذا ما أدلجت وصفت يداه *** لها إدلاج ليلة لا هجوع وقال رؤبة: الرجز وقد عرفت حين لا اعتراف وبيت الكتاب. تركتني حين لا مالٍ أعيش به البيت وهذا الوجه عكس ما جاء فيما أنشده أبو الحسن من قول الشاعر: لو لم تكن غطفان لا ذنوب له *** إليّ لامت ذوو أحسابها عمرا ألا ترى أنّ لا في المعنى زائدة وقد عملت، وفي قوله: ليلة لا هجوع، وبابه، معنى النفي فيه صحيحٌ ولم تعمل انتهى كلام أبي عليّ. وهذا البيت مطلع قصيدة لجرير بن الخطفى هجا بها الفرزدق، وبعده: البسيط للغانيات وصالٌ لست قاطعه *** على مواعيد من خلفٍ وتلوين إنّي لأرهب تصديق الوشاة بن *** وأن يقول غويّ للنّوى بيني ماذا يهيجك من دارٍ تباكره *** أرواح مخترق هوج الأفانين وجرير قد تقدمت ترجمته في الشاهد الرابع من أول الكتاب والخطاب لنفسه. وقد التزم الإتيان بالحال بعد ما بال، فجملة وقد علاك مشيبٌ حال والظرف الأول متعلق بجهلك، والثاني متعلق بقوله علاك. وأنشد بعده: وهو الشاهد الستّون بعد المائتين في بئر لا حور سرى وما شعر على أنّ لا فيه زائدة لفظاً ومعنى، أوّل من قال بزيادتها في هذا البيت أبو عبيدة، وتبعه جماعة منهم ابن دريد في الجمهرة قال فيها: ومن أمثالهم: حورٌ في محارة يضرب للرجل الذي لا يعرف وجه أمره، وأنشد هذا البيت وقال: لا هنا لغو. ومنهم أبو منصور الأزهريّ في التهذيب إلاّ أنّه قال: حور أصله حؤور مهموز، فخفّفه الشاعر بحذف الهمزة. ومنهم صاحب الصحاح قال فيه: حار يحور حوراً وحؤوراً: رجع. يقال حار بعدما كار، ونعوذ بالله من الحور بعد الكور، أي: من النقصان بعد الزيادة. وكذلك الحور بالضم. وفي المثل حورٌ في محارةٍ: أي: نقصان، يضرب للرجل إذا كان أمره يدبر. والحور أيضاً: الاسم من قولك طحنت الطّاحنة فما أحارت شيئاً، أي: ما ردّت شيئاً من الدّقيق. والحور أيضاً: الهلكة. قال الرّاجز: في بئر لا جورٍ سرى وما شعر ولا زائدة. ومنهم صاحب العباب ونقل كلام الصحاح برمتّه وزاد في المثل قولهم: حور في محارة ، هذا خلاف ما روى ابن الأعرابيّ أنّه بفتح الحاء، قال ابن الأعرابيّ: يقال: فلانٌ حور في محارة هكذا سمعته بفتح الحاء؛ يضرب مثلاً للشيء الذي لا يصلح وكان صالحاً ففسد. ومنهم الزّمخشريّ في تفسيره، وفي مفصله قال: لا في سورة القيامة في قوله تعالى: {لا أقسم زائدة كما زيدت في هذا البيت. ومنهم ابن الشجريّ في أماليه قال: ومما زيدت فيه قول العجّاج: في بئر لا حور سرى وما شعر معناه في بئر حورٍ، أي: في بئر هلاك. وذهب جماعة إلى أنّ لا هنا نافية لا زائدة أوّلهم الفرّاء قال في آخر سورة الفاتحة من تفسيره: إذا كانت غير في معنى سوى لم يجز أن تكرّ عليها لا، ألا ترى أنّه لا يجوز عندي سوى عبد الله ولا زيد. وقد قال بعض من لا يعرف العربيّة إنّ معنى غير في الحمد معنى سوى وإنّ لا صلّة في الكلام، واحتجّ بقول الشاعر: في بئر لا حورٍ سرى وما شعر وهذا غير جائز لأن المعنى وقع على ما لا يتبيّن فيه عمله فهو جحدٌ محض، وإنّما يجوز أن تجعل لا صلة إذا اتّصلت بجحد قبلها وأراد في بئر لا حور، فلا هي الصحيحة في الجحد، لأنّه أراد في بئر ماء لا يحير عليه شيئاً، كأنك قلت إلى غير رشد توجّه وما درى، والعرب تقول: طّحنت الطّاحنة فما أحارت شيئاً، أي: لم يتبيّن لها أثر عمل. انتهى. وتبعه ابن الأعرابيّ في نوادره. ومنهم ابن جنّي قال في الخصائص قال ابن الأعرابيّ في قوله: في بئرٍ لا حورٍ سرى وما شعر أراد حؤور، أي: في بئر لا حؤور ولا رجوع، قال: فأسكنت الواو الأولى وحذقت لسكونها وسكون الثانية بعدها. ورأيت في شرح شواهد الموشّح والمفصّل قال صدر الأفاضل: الحور هنا: جمع حائر، من حار إذا هلك. ونظيره - على ما حكاه الغوريّ - قُتل: جمع قاتل، وبُزل جمع بازل، وقُرح جمع قارح. ويحتمل أن يكون اسم جمع حائر، أي هُلّك، وقيل هي بئر سكنها الجنّ. انتهى. وهذا البيت من أرجوزة طويلة للعجّاج، وهي نحو مائتي بيت مدح بها عمر بن عبيد الله بن معمر، وكان عبد الملك بن مروان قد وجّهه لقتال أبي فديك الحروريّ فأوقع به وبأصحابه ومطلعه: الرجز قد جبر الدّين الإله فجبر *** وعوّر الرّحمن من ولّى العور فالحمد لله الذي أعطى الشّبر *** موالي الحقّ أن المولى شكر إلى أن قال: واختار في الدّين الحروريّ البطر *** في بئر لا حورٍ سرى وما شعر بإفكه حتّى رأى الصبّح جشر الجبر: أن تغني الرجل من فقره، وتصلح عظمه من كسر، يقال: جبر العظم جبرا، وجبر العظم بنفسه جبوراً، أي: انجبر، وقد جمعهما العجّاج. وعوّر بفتح المهملة وتشديد الواو، أي: أفسد الله من ولاّه الفساد. والشّبر: بفتح الشين المعجمة والموحّدة الخير، ويروى الحبر: بفتح المهملة والموحّدة، وهو السرور. وموالي الخير، بفتح الميم، يريد العبيد، وهو مفعول ثان لأعطى؛ وروي موالي بضم الميم، فيكون من صفة الله، ونصبه على المدح. والمولى بالفتح: العبد. والحروريّ ، أراد به أبا فديك، بالتصغير الخارجيّ. قال في الصحاح: وحروراء: اسم قرية يمد ويقصر نسبت إليها الحرورية من الخوارج، كان أوّل مجتمعهم بها وتحكيمهم منها. وقوله: بإفكه الخ الباء سببية متعلقة بقوله سرى، والإفك الكذب، مأخوذ من أفكته، إذا صرفته. وكلّ أمرٍ صرف عن وجهه فقد أفك. وجشر الصبّح ، بالجيم والشين المعجمة يجشر جشوراً إذا انفلق وأضاء. وروى: حتّى إذا الصبّح جشر وملخّص هذه القصّة كما في نهاية الأرب في فنون الأدب، للنّويريّ أنّ أبا فديك وهو من الخوارج، واسمه عبد الله بن ثور بن قيس بن ثعلبة بن تغلب، غلب على البحرين في سنة اثنتين وسبعين من الهجرة، فبعث خالد بن عبد الله القسريّ أمير البصرة أخاه أمية بن عبد الله في جندٍ كثيف، فهزمه أبو فديك وأخذ جاريةٍ له فاتّخذها لنفسه، فكتب خالد إلى عبد الملك بذلك، فأمر عبد الملك عمر بن عبيد الله بن معمر أن يندب النّاس مع أهل الكوفة والبصرة ويسير إلى قتاله، فانتدب عشرة آلاف وسار بهم. وجعل أهل الكوفة على الميمنة وعليهم محمّد بن موسى بن طلحة بن عبيد الله؛ وأهل البصرة على الميسرة وعليهم عمر بن موسى بن عبيد الله بن معمر - وهو ابن أخي عمر - وجعل خيله في القلب، وساروا حتّى انتهوا إلى البحرين فاصطفّوا للقتال. فحمل أبو فديك وأصحابه حملة رجل واحدٍ فكشفوا ميسرة عمر حتّى أبعدوا إلاّ المغيرة بن المهلّب وفرسان الناس فإنّهم مالوا إلى صفّ أهل الكوفة بالميمنة، ثم رجع أهل الميسرة وقاتلوا واشتدّ قتالهم حتّى دخلوا عسكر الخوارج، وحمل أهل الميمنة حتّى استباحوا عسكر الخوارج وقتلوا أبا فديك وحصروا أصحابه، حتّى نزلوا على الحكم، فقتل منهم نحو ستّة آلاف وأسر ثمانمائة. ووجدوا جارية أميّة بن عبد الله حبلى من أبي فديك وعادوا إلى البصرة، وذلك في سنة ثلاث وسبعين من الهجرة. وبما ذكرنا يطبّق المفصل ويصاب المحزّ. ولّما لم يقف شرّاح الشواهد على ما مرّ قالوا بالتخمين ورجموا بالظنون، منهم بعض فضلاء العجم قال في شرح أبيات المفصل وتبعه في شرح شواهد الموشّح: قيل يصف فاسق وكافراً. والمعنى على الأوّل أنّ الفاسق سرى بأفكه وأباطيله في بئر المهلكة من المعاصي وما علم لفرط غفلته إذا صار فيها، حتّى إذا انفلق الصّبح، وأضاء الحقّ، وانكشف ظلمات الشّبه، واطلع علم معاينة لكن لم ينفعه ذلك العلم. وعلى الثاني: أن الكافر سرى بإفكه وبطلانه في ورطة الهلاك من كفره وما شعر بذلك لإعراضه عن الآخرة، حتّى إذا قامت القيامة علم أنه كان خابطاً في ظلمات الكفر، ولكنه لا ينجيه من عذاب الله. هذا محصول ما قيل فيه، ولا يبعد أن يكون هذا وصفاً لرجل جريء خوّاض في المهالك سالك في مسالك الجنّ. وهذا مّما تتمدّح به العرب، وأشعارهم ناطقة بذلك. ومعنى قوله: بإفكه، أنه يكذب نفسه إذا حدّثها بشيء ولا يصدقها فيه، ويقول لها: إن الشيء الذي تطلبينه بعيد، لتزداد جدّاً في طلبه، ولا تتوانى فيه، ولذاك قال لبيد: الرمل اكذب النّفس إذا حدّثته *** إنّ صدق النّفس يزري بالأمل والمعنى: سار ليلاً هذا الرجل، لجرأته وجلادته، في مهاوي الهلاك وفي المواضع الخالية التي يسكنها الجنّ، حتّى أضاء الصبّح وما شعر به ذلك الذي ألقى بيده في المهالك وهو غافل عن ذلك لعدم مبالاته. وهذا المعنى أشبه بمذهب العرب. هذا كلامه. وترجمة العجّاج تقدّمت في الشاهد الحادي والعشرين من أوائل الكتاب. وأنشد بعده: وهو وهو من شواهد سيبويه: لا هثيم اللّيلة للمطيّ على أن لا النافية للجنس لا تدخل على العلم، وهذا مؤوّل إمّا بتقدير مضاف وهو مثل، وإمّا بتأويل العلم باسم الجنس. وقد بيّنهما الشارح المحقّق. وقد أورده صاحب الكشّاف عند قوله تعالى: {فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهباً على أنّه على تقدير مثل ملء الأرض، فحذف مثل كما حذفت من لا هيثم اللّيلة. قال الفاضل اليمنيّ: وقد اعترض هذا بوجهين: أحدهما: التزم العرب تجرّد الاسم المستعمل عن الألف واللام، ولم يجوّزوا قضية ولا أبا الحسن، كما جوّزوا ولا أبا حسن، ولو كانت إضافة مثل منوّية لم يحتج إلى ذلك. والثاني: إخبار العرب عن المستعمل ذلك الاستعمال بمثل، كقول الشاعر: الطويل تبكي على زيدٍ ولا زيد مثله *** بريءٌ من الحمّى سليم الجوانح ولو كانت إضافة مثل منويّة لكان التقدير: ولا مثل زيد مثله، وهو فاسد. انتهى. أقول: لا يضر هذا الالتزام فإنّه واردٌ على أحد الجائزين، فإنّ أل للمح الأصل، والغالب عدم ذكرها، مع أنّها علامة لفظيّة للتعريف. وتعريف العلميّة وإن كان أقوى منها إلاّ أنّه معنوي، فلو وجدت مع لا لكان القبح ظاهراً. ثم رأيت في تذكرة أبي حيّان ما نصّه: قال الفرّاء من قال قضيّة ولا أبا حسن لها لا يقول ولا أبا الحسن لها، بالألف واللام، لأنّها تمحّض التعريف في ذا المعنى وتبطل مذهب التنكير. وقال: إنّما أجزنا لا عبد الله لك بالنصب، لأنّه حرف مستعمل، يقال لكلّ أحد عبد الله، ولا نجيز لا عبد الرحمن ولا عبد الرحيم، لأن استعمال لم يلزم هذين كلزومه الأول. وكان الكسائي يقيس عبد الرحمن وعبد العزيز على عبد الله، وما لذلك صحّة. وأما جعله بتأويل اسم الجنس فقد قال سيبويه: وقالوا قضية ولا أبا حسن لها، قال الخليل: نجعله نكرة. فقلت: كيف يكون هذا وإنّما أرادوا عليّاً عليه السلام؟ فقال: لأنّه لا يجوز لك أن تعمل لا إلاّ في نكرة، فإذا جعلت أبا حسن نكرة حسن لك أن تعمل لا، وعلم المخاطب أنّه قد دخل في هؤلاء المنكورين. وهيثم اسم رجل كان حسن الحداء للإبل، وقيل كان جيّد الرّعية، والسياق يدلّ للأوّل كما يظهر. وكذلك قال بعض شرّاح أبيات المفصّل: المراد هيثم بن الأشتر، وكان مشهوراً بين العرب بحسن الصوت في حدائه الإبل وكان أعرف أهل زمانه بالبيداء والفلوات وسوق الإبل. وللمطيّ خبر لا وهو ظرف مستقر عامل في اللّيلة، وبعده: ولا فتى مثل ابن خبيريّ قال الصّاغانيّ في العباب: ذكر مثل هنا يعيّن أن يكون ما قبله بتقدير لا مثل هيثم، وابن خبيريّ: قال ابن الكلبيّ في جمهرة نسب عذرة: فمن بني ضبيس جميل بن عبد الله بن معمر بن الحارث بن خبيريّ بن ظبيان. وجميل هذا هو صاحب بثينة المشهور، وهو المراد بابن خبيريّ: فيكون نسب إلى أحد أجداده. ومدحه بالفتوّة لأنّه كان شجيعاً يحمي أدبار المطيّ من الأعداء. وقال بعضهم: المراد بابن خبيريّ عليّ رضي الله عنه، والإضافة للملابسة. وهذا لا أصل له. وقيل: أراد به مرحبا، وهو الذي بارزه عليّ رضي الله عنه يوم خيبر فقتله. وهذا الشاهد من أبيات سيبويه الخمسين التي لم يعيّن قائلها. وقد أورد هذين البيتين أبو عبيد في الغريب المصنّف مع أبيات قبلهما، وهي: الرجز قد حشّها اللّيل بعصلبيّ *** مهاجر ليس بأعرابيّ أروع خرّاج من الدّوّيّ *** عمرّسٍ كالمرس الملويّ لا هيثم اللّيلة للمطيّ *** ولا فتّى مثل ابن خيبريّ قال الصاغانيّ في العباب: العصلبيّ ، بفتح العين وسكون الصاد المهملتين: الشديد الباقي على المشي والعمل. وأنشد الأبيات على الفرّاء في نوادره لبعض بني دبير بضم الدال وفتح الموحدة مصغراً، وهي قبيلة من بني أسد. وقال شارح شواهد الغريب ابن السّيرافيّ: يقال حشّ النّار يحشّها حشّاً، إذا بالغ في إيقادها وإحمائها. وإنما يريد أنّ الإبل قد رميت برجل عصلبيّ يسرع سوقها ولا يدعها تفتر كما تحشّ النّار. وحشّ بحاء مهملة وشين معجمة. ويروى: قد لفّها اللّيل أي: الليل جعل هذا الرّجل ملتفاً بها. وإنّما نسب الفعل إلى اللّيل لأنّ الليل حمله على الجدّ في السير. وجعله مهاجراً، والمهاجر الذي هاجر إلى الأمصار من البادية فأقام بها وصار من أهلها، ليكون سيره أشدّ. وخصّ المهاجر لأنّه من أهل المصر الذي يقصده، فله بالمصر ما يدعوه إلى إسراع السير؛ ويجوز أن يكون خصّ المهاجر لأنّه أعلم بالأمور من الأعرابيّ وأبصر بما يحتاج إليه. والأروع: الحديد الفؤاد. والدّوّيّ: جمع دوّيّة، يريد أنّه ذو هداية وبصر بقطع الفلوات والخروج منها. والعمرّس: الشديد، بفتح العين والميم وتشديد الراء وبالسين المهملات. والمرس: الحبل، واحد الأمراس. والملويّ: المفتول انتهى كلامه. والدّوّيّ بتشديد الواو والياء قال في الصحاح: الدوّ والدوّيّ: المفازة وكذلك الدوّيّة، لأنّها مفازة مثلها، فنسبت إليها؛ كقولهم دهرٌ دوّار ودوّاريّ. وعرف بهذا السّياق أنّه مدحٌ لهيثم في جودة حدائه المنشط للإبل في سيرها، وأنّه لا يقوم أحدٌ مقلمه، ولا يسدّ مسدّه في حدائها. وظهر منه أيضاً أن المراد لا مثل هيثم، لا تأويله باسم الجنس لشهرته في صفة الحداء، فتأمّل. وزعم بعض فضلاء العجم في شرح أبيات المفصّل أنّ هذا الكلام تأسّف وتحسرّ عليهما. وكأنّه فهم أنهما ماتا والشعر مرثية فيهما. وهما غائبان عن المطيّ في تلك اللّيلة. تتمة قال أبو حيّان في تذكرته: قال الكسائيّ في قول العرب لا أبا حمزة لك: أبا حمزة نكرة؛ ولم ينصب حمزة لأنه معرفة. لكنّهم قدّروا أنّه آخر الاسم المنصوب بلا فنصب الآخر، كما تفتح اللام في لا رجل. وقال: سمعت العرب تقول: لا أبا زيد لك، ولا أبا محمد عندك، فعلّة نصبهم محمداً وزيداً، أنّهم جعلوا أبا محمد وأبا زيد اسماً واحداً، وألزموا آخره نصب النّكرة. انتهى. وأنشد بعده: وهو الشاهد الثاني والستّون بعد المائتين وهو من شواهد س: الوافر أرى الحاجات عند أبي خبيب *** نكدن ولا أميّة في البلاد على أن التقدير إمّا: ولا أمثال أميّة في البلاد، وإمّا: ولا أجواد في البلاد، لأنّ بني أميّة قد اشتهروا بالجود. فأوّل العلم باسم الجنس لشهرته بصفة الجود. وهذا البيت من أبيات لعبد الله بن الزّبير الأسديّ، قالها في عبد الله بن الزّبير بن العوّام وكان شديد البخل، قال الحصريّ في زهر الآداب قال أبو عبيدة: وفد عبد الله بن الزّبير الأسديّ على عبد الله بن الزّبير بن العوّام، فقال: يا أمير المؤمنين، إنّ بيني وبينك رحماً من قبل فلانة الكاهليّة؛ وهي عمّتنا وقد ولدتكم فقال ابن الزّبير: هذا كما وصفت، وإن فكرت في هذا، وجدت النّاس كلّهم يرجعون إلى أب واحد وإلى أمّ واحدة. فقال: يا أمير المؤمنين، إنّ نفقتي قد ذهبت. قال: ما كنت ضمنت لأهلك أنّها تكفيك إلى أن ترجع إليهم. قال: يا أمير المؤمنين إنّ ناقتي قد نقبت ودبرت. قال له: أنجد بها يبرد خفّها، وارقعها بسبتٍ واخصفها بهلبٍ، وسر عليها البردين، تصحّ. قال: إنّما جئتك مستحملاً ولم آتك مستوصفاً، فلعن الله ناقة حملتني إليك! قال ابن الزّبير: إنّ وراكبها. فخرج وهو يقول: أرى الحاجات عند أبي خبيبٍ *** نكدن ولا أميّة في البلاد من الأعياص ومن آل حربٍ *** أغر كغرّة الفرس الجواد ومالي حين أقطع ذات عرقٍ *** إلى ابن الكاهليّة من معاد وقلت لصحبتي: أدنوا ركابي *** أفارق بطن مكة في سواد فبلغ شعره هذا عبد الله بن الزّبير فقال: لو أعلم أنّ لي أمّاً أخسّ من عمّته الكاهليّة لنسبتي إليها. وكان ابن الزّبير يكنى أبا بكر وأبا خبيب. قال الصّوليّ: أخذ المعتصم من محمد بن عبد الملك الزيات فرسا أشهب كان عنده مكيناً، وكان به ضنيناً؛ فقال يرثيه: الكامل قالوا جزعت فقلت إنّ مصيبةً *** جلت رزيّتها وضاق المذهب قال أبو بكر الصّوليّ: هكذا أنشدنيه ابن المعتز على أنّ إنّ بمعنى نعم؛ وأنشد النّحويون: الكامل قالوا كبرت فقلت إنّ، وربّم *** ذكر الكبير شبابه فتطرّبا انتهى كلام الحصريّ. وكذا نقل السّيوطيّ في تاريخ الخلفاء. وهذه الحكاية عن تاريخ ابن عساكر من طريق أبي عبيدة. وقوله: إنّ ناقتي قد نقبت ، في الصحاح: ونقب البعير بالكسر: إذا رقت أخفافه. ودبر البعير بالكسر وأدبره القتب، إذا جرحه، وهي الدّبرة بفتحات. وأنجد، إذا أخذ في بلاد نجد. وهو من بلاد العرب، وهو خلاف الغور وتهامة وكلّ ما ارتفع من تهامة إلى أرض العراق فهو نجد. ونجد موصوف بالبرد. والسّبت بكسر السين وسكون الموحدة: جلود البقر المدبوغة بالقرظ تحذى منه النعال السّبتيّة. والهلب ، بضم الهاء: شعر الخنزير الذي يخرز به، الواحد هلبة، وكذلك ما غلظ من شعر الذنب وغيره. والبردان: العصران، وكذلك الأبردان وهما الغداة والعشيّ؛ ويقال ظلاّهما. ومستحملاً، أي: طالباً أن تحملني على دابة. وأبو خبيب، بضم الخاء المعجمة وفتح الموحدة الأولى كنية عبد الله بن الزّبير كني بأكبر أولاده؛ قال الثعالبيّ في لطائف المعارف: كان له ثلاث كنى: أبو خبيب، وأبو بكر، وأبو عبد الرحمن، وكان إذا هجي كني بأبي خبيب. ونكدن من نكد نكداً من باب تعب، فهو نكد، إذا تعسّر. ونكد العيش نكداً، إذا اشتدّ. وأميّة: أبو قبيلة من قريش، وهما أميّتان: الأكبر والأصغر، ابنا عبد شمس بن عبد مناف أولاد علّة؛ فمن أميّة الكبرى أبو سفيان بن حرب، والعنابس، والأعياص. وأميّة الصغرى هم ثلاثة إخوة لأمٍّ اسمها عبلة يقال لهم العبلات بالتحريك. والأعياص بإهمال الأوّل والآخر، هم من قريش أولاد أميّة ابن عبد شمس الأكبر؛ وهم أربعة: العاص، وأبو العاص، والعيص، وأبو العيص. وذات عرق ، بالكسر: ميقات أهل العراق، وهو من مكّة نحو مرحلتين، ويقال هو من نجد الحجاز. والصّحبة أراد به الأصحاب، وهو في الأصل مصدر. وادنوا بفتح الهمزة: أمر مسند لجماعة الذكور، من الإدناء، وركابي: إبلي. وأفارق مجزوم في جواب الأمر. وعبد الله بن الزّبير بفتح الزاي وكسر الموحدة، قد تقدّمت ترجمته في الشاهد الرابع والعشرين بعد المائة. وروى الاصبهاني في الأغاني هذه الأبيات لعبد الله بن فضالة بن شريك ابن سليمان بن خويلد، وأنهى نسبه إلى أسد بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر. قال: وعبد الله بن فضالة هو الوافد على ابن الزّبير، والقائل له: إنّ ناقتي قد نقبت وذكر القصة بعينها، إلى قوله فقال له ابن الزّبير: إنّ وراكبها. فانصرف وهو يقول: أقول لغلمتي شدّوا ركابي *** أجاوز بطن مرّ في سواد فمالي حين أقطع ذات عرق *** إلى ابن الكاهليّة من معاد سيبعد بيننا نصّ المطاي *** وتعليق الأداوى والمزاد وكل معّبد قد أعلمته *** مناسمهنّ طلاّع النّجاد أرى الحاجات عند أبي خبيب *** نكدن ولا أميّة في البلاد ثم قال الأصبهانيّ: وذكر ابن حبيب أنّ هذا الشعر لأبيه فضالة مع ابن الزّبير، وزاد فيها: شكوت إليه أن نقبت قلوصي *** فردّ جواب مشدّود الصّفاد يضنّ بناقة ويروم ملك *** محالٌ ذاكم غير السّداد وليت إمارة وبخلت لمّ *** وليتهم بملكٍ مستفاد فإن وليت أميّة أبدلوكم *** بكلّ سميدعٍ واري الزّناد من الأعياص ومن آل حربٍ *** أغرّ كغرّة الفرس الجواد إذا لم ألقهم بمنّى فإنّي *** بجوّ لا يهشّ له فؤادي سيدنيني لهم نصّ المطاي *** وتعليق الأداوى والمزاد وظهر معبّد قد أعلمته *** مناسمهنّ طلاّع النّجاد مع أبيات ثلاثة آخر. قال ابن حبيب: فلمّا ولي عبد الملك بعث إلى فضالة يطلبه، فوجده قد مات، فأمر لورثته بمائة ناقة تحمّل أوقارها برّاً وتمراً. قال: والكاهليّة التي ذكرها هي بنت جبيرة من بني كاهل بن اسد، وهي أم خويلد بن اسد بن عبد العزّى. هذا ما أورده الأصبهانيّ. وزعم بعض فضلاء العجم في شرح أبيات المفصّل أنّ الكاهليّة هي أم عبد الله بن الزّبير، وهذا لا أصل له. وزعم أيضاً أن ابن الزّبير صاحب هذه الأبيات اسمه عبد الله بن فضالة، ونقله عن صدر الأفاضل. وقوله: أقول لغلمتي ، هو بكسر المعجمة: جمع غلام. وبطن مرّ ، بفتح الميم: موضع بقرب مكّة شرّفها الله. وقوله: في سواد ، أي: في ظلام اللّيل. ونصّ المطاي: مصدر مضاف إلى مفعوله، من نصصت الدّابّة: استحثثها واستخرجت ما عندها من السّير. والأداوى بفتح الواو: جمع إداوة بالكسر، وهي المطهرة. والمزاد بالفتح: جمع مزادة، وهي شطر الرّواية، والقياس كسر الميم لأنّها آلة يستقى فيها، وهي مفعلة من الزّاد لأنّه يتزوّد فيها الماء. والطريق المعبّد، من التعبيد، وهو التذليل. والمناسم: جمع منسم كمجلس: طرف خفّ الإبل. وطلاّع حال من ضمير المطايا جمع طالعة. والنّجاد ، بكسر النون بعدها جيم: جمع نجد، ككلب وكلاب، وهو ما ارتفع من الأرض. والصّفاد بكسر الصاد: ما يوثق به الأسير من قدٍّ وقيد وغلّ، أي: أجابني بجواب عاجز مقيّد لا يقدر على شيء. والسّميدع بفتح السين: السّيد الذي يسهل الوصول إليه. وجوّ ، بفتح الجيم وتشديد الواو: اسم موضع. وفضالة بن شريك الأسدي بفتح الفاء، أورده ابن حجر في الإصابة من المخضرمين الذين أدركوا النبيّ صلى الله عليه وسلم ولم يعلم اجتماعهم به. وأنشد بعده: وهو وهو من شواهد سيبويه: فلا أب وابنا مثل مروان وابنه *** إذا هو بالمجد ارتدى وتأزّرا على أنّه عطف الابن بالنصب على لفظ اسم لا المبني، ويجوز رفع المعطوف باعتبار محلٌ لا واسمها، فإنّهما في محلّ رفع على الابتداء.وإنّما جاز الرفع لأنّ لا إذا لم تتكرّر في المعطوف وجب فتح الأول وجاز في الثاني النصب والرفع. قال أبو عليّ في المسائل البصرية: مثل يحتمل أن يكون صفة وأن يكون خبراً. فإن جعلته صفةً احتمل أمرين: يجوز أن تنصبه على اللفظ، لأنّ اللفظ منصوب فتحمله عليه، وإن حملته على الموضع هنا كان أقبح منه في غير هذا الموضع؛ وذاك أنّك لما عطفت بالنصب فقد أنبأت أنّه منصوب، فإذا رفعته بعد ذلك كان قبيحاً، لأنّك كأنّك حكمت برفعه بعد ما حكمت بنصبه. وهذا عندي أقبح من أن تحمل الأسماء المبهمة على المعنى ثم ترجع إلى اللفظ، لأنّ الاسم كما يعلم منه الإفراد فقد يعلم منه الجمع، فتكون دلالته على ذا كدلالته على ذا، ولا يعلم من الرفع النصب ولا من النّصب الرفع؛ فلهذا يستحسن حمل الصفة هنا على اللفظ. فإن قلت: فصفة أيّ الاسمين هو؟ فإنّا لا نقول صفة أحدهما، ولكن صفتهما جميعاً؛ ألا ترى أنّه قد أضيف إلى مروان وعطف ابن عليه، فكأنّه قال مثلهما؛ ألا ترى أنّ العطف بالواو نظير التثنية؛ فكما أنّ مثلهم في قوله تعالى: {إنّكم إذاً مثلهم خبر عن جميع الأسماء حيث كان مضافاً إلى ضمير الجمع، كذلك يكون مثل وصفاً للاسمين جميعاً وتضمر الخبر إذا جعلته صفة. فإن جعلت مثلاً الخبر رفعت لا غير ولم تضمر شيئاً؛ ومثل ذلك: البسيط ولا كريم من الولدان مصبوح وقد يستقيم أن تجعله هنا وصفاً على الموضع وتضمر، ولا يقبح من حيث قبح في قوله: فلا أب وابنا. فأما: إذا هو بالمجد ارتدى، فالعامل في إذا أضمرت. انتهى كلام أبي علي. وقال ابن هشام في شرح شواهده: وروى ابن الأنباريّ: إذا ما ارتدى بالمجد ثم تأزّرا ورواية سيبويه أولى، لأن الائتزار قبل الارتداء. والواو لا ترتيب فيها بخلاف ثمّ، والمجد: العزّ والشرّف؛ ورجل ماجد: كريم شريف. وارتدى: لبس الرداء. وتأزّر: لبس الإزار: الثّوب الذي يستر النصف الأسفل، والرداء: ما يستر النصف الأعلى. قال الأعلم: مدح مروان بن الحكم وابنه عبد الملك بن مروان، وجعلهما لشهرة مجدهما كاللابسين له المرتديين به، وجعل الخبر على أحدهما وهو يعنيهما اختصاراً، لعلم السامع. ولقد كذب الشاعر في هذا المدح فإنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلم قال في حقّ مروان: الوزغ بن الوزغ . وهذا البيت من أبيات سيبويه الخمسين التي لا يعرف لها قائل. وقال ابن هشام في شواهده: إنّه لرجل من عبد مناة بن كنانة، والله أعلم. وأنشد بعده: وهو وهو من شواهد سيبويه: البسيط ألا طعان إلا فرسان عاديةٍ *** إلاّ تجشّؤكم حول التنانير على أن لا إذا تقدمها همزة الاستفهام تعمل كعملها مجردةً منها. قال سيبويه: واعلم أنّ لا في الاستفهام تعمل فيها بعدها كما تعمل فيه إذا كانت في الخبر، فمن ذلك قوله: ألا طعان إلا فرسان عاديةٍ *** إلاّ تجشّؤكم حول التنانير وقال ابن هشام في المعني ألا تأتي للتوبيخ والإنكار كقوله: ألا طعان إلا فرسان عاديةٍ *** إلاّ تجشّؤكم حول التنانير وللتمني كقوله: الطويل ألا عمر ولّى مستطاعٌ رجوعه *** فيرأب ما أثأت يد الغفلات ولهذا نصب يرأب لأنّه جواب تمنّ مقرون بالفاء. وللاستفهام عن النفي كقوله: البسيط ألا اصطبار لسلمى أم لها جلدٌ وفي هذا البيت ردٌّ على من أنكر وجود هذا القسم وهو الشّلوبين. وهذه الأقسام الثلاثة مختصّة بالدخول على الجملة الاسميّة وتعمل عمل لا التبرئة، ولكن تختصّ التي للتمنّي بأنها لا خبر لها لفظاً ولا تقديراً، بأنها لا يجوز مراعاة محلّها مع اسمها، وبأنّها لا يجوز إلغاؤها ولو تكررت. أمّا الأوّل فلأنّها بمعنى أتمنّى، وأتمنّى لا خبر له، وأمّا الأخيران فلأنّهما بمنزلة ليت. وهذا كلّه قول سيبويه ومن وافقه. باختصار. وزعم الزجاجيّ في الجمل أنّ ألا في هذا البيت للتمنّي. وليس كذلك لأنّ البيت من الهجو، ولو كان تمنّياً لما كان ذمّاً. وهذا البيت من أبيات لحسّان بن ثابت الصّحابيّ رضي الله عنه، هجا بها بني الحارث بن كعب المذحجيّ، جعلهم أهل أكل وشرب، لا أهل غارة وحرب، يقول: لا خيل تعدون بها على الأقران، ولا طعان لكم في نحور الشّجعان، إلاّ الأكل والجشاء عند التنانير، فليس لكم رغبةٌ في طلب المعالي، وإنّما فعلكم فعل البهائم. كما قال الآخر: الكامل إنّي رأيت من المكارم حسبكم *** أن تلبسوا حرّ الثّياب وتشبعوا فإذا تذوكرت المكارم مرّةً *** في مجلس أنتم فتقنّعوا وزعم اللّخميّ في شرح أبيات الجمل أنّ الاستفهام هنا للتقرير، قال: قرّرهم على ما علم من أمرهم. فيكون المقرر النفي وما بعده. وطعان: مصدر طاعن بالرّمح. والفرسان: جمع فارس. وعادية بالمهملة والنصب: صفة لفرسان، وقيل حال منه، والخبر محذوف، أي: لكم، وهو من عدا عليه بمعنى اعتدى، والمصدر العدوان. والعرب تتمدّح به باعتبار ما يلزمه من الشجاعة. وقيل: هو من العدو، أي: الجري، وقيل هو بالمعجمة من الغدوّ، وهو التبكير، لأنّ العرب تبكر للغارة والحرب. قال النحّاس: وعند أبي الحسن الأول هو الأحسن، لأنّ العادية تكون بالغداة وغيرها. وروي بالرفع على الروايتين على أنّه صفة لفرسان على الموضع، وقيل خبر. وقوله: إلاّ تجشّؤكم بالنصب على الاستثناء المنقطع، قيل: ويجوز رفعه على البدل من موضع ألا طعان على لغة تميم. قال النحّاس: هذا غلط والصواب عند أبي الحسن النصب. والتجشّؤ: خروج نفسٍ من الفم ينشأ من امتلاء المعدة، يقال: تجشّأ تجشّؤاً وتجشئة مهموز، والاسم الجشاء بضم الجيم وفتح الشين. قال الأصمعيّ: ويقال الجشاء على فعال، كأنّه من باب العطاس والسعال. قال اللّخميّ: وروي: إلاّ تحشؤكم بالحاء المهملة، مأخوذ من المحشأ، وهو الكساء الغليظ الذي يشتمل به، فمعناه على هذا إنّكم تشبعون وتلتفّون في الأكسية، وتنامون عند التنانير. انتهى. والمحشأ على وزن مفعل والجمع المحاشئ بالهمز على وزن مفاعل. والتّنانير: جمع تنّور وهو ما يخبز فيه الخبز . والأبيات هذه برمتّه: البسيط حار بن كعبٍ ألا أحلام تزجركم *** عنّا وأنتم من الجوف الجماخير لا عيب بالقوم من طولٍ ولا عظمٍ *** جسم البغال وأحلام العصافير كأنّهم قصبٌ جوفٌ مكاسره *** مثقّب فيه أرواح الأعاصير دعوا التّخاجؤ وامشوا مشيةً سجح *** إنّ الرجال أولو عصبٍ وتذكير لا ينفع الطّول من نوك القلوب ول *** يهدي الإله سبيل المعشر البور إنّي سأنصر عرضي من سراتكم *** إنّ الحماس نسيٌّ غير مذكور ألفى أباه وألفى جدّه حبس *** بمعزلٍ عن معالي المجد والخير ألا طعان إلا فرسان عاديةٍ *** إلاّ تجشّؤكم حول التنانير كذا في شرح أبيات الجمل لابن السيد وغيره، من رواية محمد بن حبيب لديوان حسّان. وقوله: حار بن كعب ، هو مرخّم حارث، وبه استشهد الزّجاجيّ في جمله . والأحلام: العقول، جمع حلم بالكسر. والجوف ، بضم الجيم: جمع أجوف، وهو الخالي الجوف. والجماخير: جمع جمخور، بضم الجيم والخاء المعجمة بينهما ميم ساكنة، هو العظيم الجسم الخوّار. وقوله: لا عيب بالقوم، روي أيض: لا بأس بالقوم . يريد أنّ أجسامهم لا تعاب، وهي طويلة عظيمة ولكنّها كأجسام البغال لا عقول لها. هكذا رواه الناس؛ ورواه الزمخشريّ: جسم الجمال وأحلام الخ عند قوله تعالى: {حتى يلج الجمل في سمّ الخياط على أنّ الجمل مثلٌ في عظم الجرم، وهذا مثل قول بعضهم: الوافر وقد عظم البعير بغير لبٍّ *** فلم يستغن بالعظم البعير وقال آخر: الطويل فأحلامهم حلم العصافير دقةً *** وأجسامهم جسم الجمائل وأجفى وهذان البيتان أوردهما سيبويه على رفع الجسم والأحلام على إضمار مبتدأ لما أراد من تفسير أحوالهم، دون القصد إلى الذم. والتقدير أجسامهم أجسام البغال، وأحلامهم أحلام العصافير: عظماً وحقارة. ويجوز أن يريد لا أحلام لهم، كما أنّ العصفور لا حلم له؛ ولو قصد به الذمّ فنصبه بإضمار فعل لجاز. قال ابن خلف: ذكر سيبويه هذا الشعر بعد أبيات أنشدها، وذكر فيها أسماءً قد نصبت على طريق الشتم والتحقير، ورفع قوله جسم البغال وأحلام العصافير. وقوله: ولم يرد أن يجعله شتماً ، يريد أنّه لم يجعله شتماً من طريق اللفظ، إنّما هو شتمٌ من طريق المعنى، وهو أغلظ من كثير من الشتم. وأفرد الجسم وهو يريد الجمع ضرورة، كقوله: الرجز في حلقكم عظمٌ وقد شجينا وقوله: كأنهم قصب الخ ، هو جمع قصبة، والجوف جمع أجوف كما مرّ. ومكاسره مبتدأ جمع مكسر، أي: محلّ الكسر، ومثقب خبره، والأرواح: جمع ريح. والتخاجؤ ، بعد المثناة الفوقية خاء معجمة وبعدها جيم بعدها همزة، هو مشي فيه تبختر. والمشية السّجح ، بضم السين المهملة والجيم بعدها حاء مهملة: السّهلة الحسنة. وأولو عصب: أصحاب شدّة خلق، يقال: رجل معصوب الخلق ،أي: مدمجه. والتذكير: كونهم على خلقة الذكور . والنّوك بضم النون: الحماقة. والبور: جمع بائر، وهو الهالك. والحماس بكسر الحاء المهملة، بعدها ميم، فرقة من بني الحارث بن كعب. والنّسيّ: المنسيّ الخامل الذكر. وقوله: حبسا بالبناء للمفعول، من الحبس. والمجد: الشرف. والخير بكسر المعجمة: الكرم. وسبب هجو حسّان بني الحارث أنّ النّجاشيّ وهو من رهط الحارث بن كعب هجا بني النّجّار من الأنصار بشعرٍ يقول فيه: الطويل لستم بني النّجّار أكفاء مثلن *** فأبعد بكم عنّا هنالك أبعد فإن شئتم نافرتكم عن أبيكم *** إلى من أردتم من تهامٍ ومنجد قال السّكريّ في ديوان حسّان: ذكروا أنّ الأنصار اجتمعوا في مجلس، فتذاكروا هجاء النّجاشيّ إيّاهم، فقالوا: من له؟ فقال الحارث بن معاذ بن عفراء: حسّان له. فأعظم ذلك القوم فتوجّه نحوه - والقوم كلّهم معظمٌ لذلك - فلمّا دخل عليه كلّمه فقال: أين أنتم هم ابني عبد الرحمن! قال: إيّاك أردنا، قد قاوله عبد الرحمن فلم يصنع شيئاً. فوثب وقال: كن وراء الباب واحفظ ما ألقي. فضربته زافرة الباب فشجتّه على حاجبه، فقال: بسم الله؛ ثم قال: اللهم اخلف فيّ رسولك اليوم صلى الله عليه وسلم! قال الحارث: فعرفت حين قالها ليغلبنّه. فدخل وهو يقول: الكامل أبني الحماس أليس منكم ماجدٌ *** إنّ المروءة في الحماس قليل يا ويل أمّكم وويل أبيكم *** ويلاً تردّد فيكم وعويل إلى أن قال: فاللؤم حلّ على الحماس فما لهم *** كهلٌ يسود ولا فتىً بهلول ثم مكث طويلاً في الباب يقول: والله ما بلغت ما أريد. ثم ألقى عليّ: حار بن كعبٍ ألا أحلام تزجركم *** الأبيات التي تقدّمت. ثم قال للحارث: اكتبها صكوكا فألقها إلى غلمان الكتّاب، قال الحارث: ففعلت، فما مرّ بنا بضع وخمسون ليلةً حتّى طرقت بنو عبد المدان حسّان بالنّجاشيّ موثقاً، فقال حسّان لبنته: نادي بأبيات أطم حسّان ليأتيك قومك فيحضروا. فلم يبق أحدٌ إلاّ جاء ومعه السّلاح. فلما اجتمع النّاس وضع له منبر ونزل وفي يده مخصرة، فقام عبد الله بن عبد المدان فقال: يا ابن الفريعة، جئناك بابن أخيك فاحكم فيه برأيك، فأتى بالنّجاشيّ فأجلس بين يديه واعتذر القوم، فقال حسّان لابنته: هاتي البقيّة التي بقيت من جائزة معاوية. فأتته بمائة دينار إلاّ دينارين، فقال: دونك هذه يا ابن أخي. وحمله على بغلةٍ لعبد الرحمن، فقال له ابن الديّان: كنّا نفتخر على النّاس بالعظم والطّول فأفسدته علينا. قال: كلاّ، أليس أنا الذي أقول: الوافر وقد كنّا نقول إذا رأين *** لذي جسمٍ يعدّ وذي بيان كأنك أيّها المعطى بيان *** وجسماً من بني عبد المدان انتهى ما أورده السكّريّ. وعبد المدان: هو ابن الديّان بن قطن بن زياد بن الحارث بن مالك بن ربيعة بن مالك بن كعب بن الحارث بن كعب بن عمرو بن علة بضم المهملة وخفّة اللام ابن جلد بفتح الجيم وسكون اللام ابن مالك بن أدد. وبنو الديّان سادات بني الحارث بن كعب. وكان بنو الحارث إحدى جمرات العرب. وترجمة حسّان بن ثابت تقدّمت في الشاهد الحادي والثلاثين. والنجاشي اسمه قيس بن عمرو، من رهط الحارث بن كعب، وكان فيما روي ضعيف الدين: ذكر أنه شرب الخمر في رمضان، وثبت خبره عند عليّ عليه السلام فجلده مائة سوطٍ، فلمّا رآه قد زاد على الثمانين صاح به: ما هذه العلاوة يا أبا الحسن! فقال عليّ رضي الله عنه: لجراءتك على الله في رمضان. قال ابن هشام اللّخميّ في شرح أبيات الجمل: روي أنّه لما هاجى النّجاشيّ عبد الرحمن بن حسّان أعانه أبوه بالشعر المذكور. وروي من طريق أخرى أنّه لما مضت مدّة لمهاجاة عبد الرحمن بن حسان للنّجاشيّ علم بذلك أبوه حسّان، فقال له: يا عبد الرحمن، أرني ما جرى بينك وبين الحارثي. فأنشده لنفسه وللحارثيّ، فقال له: يا عبد الرحمن، إنّي أراه قد أكلك، فهل تحبّ أن أعينك؟ قال: نعم يا أبت. فقال حسّان الأبيات المذكورة. ثم ذكر بقيّة القصّة من كتاف النّجاشيّ وعفو حسّان عنه. والله أعلم أيّ ذلك كان. تتمة كون البيت الشاهد لحسّان هو ما رواه السكّريّ وغيره من جملة الأبيات المذكورة، إلاّ ابن السيرفيّ والزّمخشريّ، فإنّه رواه في شرح أبيات سيبويه من قصيدة لخداش بن زهير يخاطب بها بعض بني تميم، من أجل مسابقةٍ كانت بينهم وبين كرز ابن ربيعة - وهو من رهط خداش - وأوّل القصيدة: البسيط أبلغ أبا كنف إمّا عرضت له *** والأبجرين ووهباً وابن منظور ألا طعان ألا فرسان عاديةٍ *** إلاّ تجشّؤكم حول التنانير ثم احضرونا إذا ما احمر أعينن *** في كلّ يوم يزيل الهام مذكور تلقوا فوارس لا ميلاً ولا عزل *** ولا هلابيج روّاثين في الدّور تلقوا أسيداً وعمراً وابن عمّهم *** ورقاء في النّفر الشّعث المغاوير من آل كرز غداة الروّع قد عرفو *** عند القتال إلى ركنٍ ومحبور يحدون أقرانهم في كلّ معتركٍ *** طعناً وضرباً كشقٍّ بالمناشير وهي قصيدة تزيد على عشرين بيتاً أوردها أبو محمد الأعرابيّ في فرحة الأديب ، وقال: كان من قصّة هذا الشعر أنّ أوّل ما هاج بين قريش وبين بني عامر ابن صعصعة أن كرز بن ربيعة بن عمرو بن عامر بن ربيعة بن عامر بن صعصعة راهن أسيداً وعمراً وعبد الله بني العرقة، من بني تيم بن غالب، وهم تيمٌ الأدرم، على فرسٍ لهم يقال له البرق، والسّبق ثلاثون ناقة. وجعلوا المدى والمضمار إلى كرز، فجعل المدى ما بين السّجسج إلى ذات الفلج، وحمل كرز على فرسه المجالد بن زهير بن ربيعة بن عمرو بن عامر، فجاء سابقاً وهلك البرق، فأخذ السّبق وناشدوه في ردّه فأبى، فلبثوا قريباً من سنتين، ثم ركب بنو العرقة فلقوا أسيد بن مالك، وعمرو بن مالك، وعثمان بن أسيد من بني عامر بن ربيعة، بأسفل العقيق، في إبل لهم فيها بكرة يقال لها العنب، عشراء، فطردوا الإبل فاستقبلها عثمان بن أسيد ينفر بثوبه وبعث أمةً نحو أبيه وعمه مغوثاً، فركب أبوه فرساً كبيرة، وركب عمّه بنتها فرساً صعبة. فلمّا لحق بالقوم قال عمرو بن مالك: أعلمونا من أنتم؟ قالوا: قريش قالوا: وأيّهم؟ قالوا: بنو العرقة. قالوا: فهل كان منا حدث؟ قالوا: لا، إلاّ يوم البرق، فقال لهم: احبسوا العنب، احبسوا العنب، احبسوا اللّقحة، لقحة من لا يغدر! فقال لهم عمرو: لا والله لا ترضع منها قادماً ولا آخراً! قال: إنّا لا نرضع الإبل ولكن نحتلبها. وحمل عليه فقتله، وحمل أسيد بن مالك على أسيد بن العرقة فقتله، فقال في ذلك: الرجز إنّي كذاك اضرب الكميّ *** ولم يكن يشقى بي السّميّ فذلك يوم العنب. وقال خداش بن زهير في ذلك: المتقارب نكبّ الكماة لأذقانه *** إذا كان يومٌ طويل الذّنب كذاك الزّمان وتصريفه *** وتلك فوارس يوم العنب ثم وقع بينهم بعد ذلك التغاور والقتال، فقال في ذلك خداش بن زهير القصيدة التي منها: ألا طعان ألا فرسان عادية البيت وخداش بن زهير شاعر جاهليّ، وقيل مخضرم كما يأتي في الشاهد الرابع والعشرين بعد الخمسمائة. وأنشد بعده: وهو البسيط ألا سبيل إلى خمر فأشربه *** أم لا سبيل إلى نصر بن حجّاج على أن ألا فيه للتمني. ولهذا سمّيت قائلة هذا البيت المتمنّية، وضرب بها المثل فقيل: أصبّ من المتمنية ، وضرب به المثل أيضاً فقيل أدنف من المتمني كما يجيء شرحه. قال ابن برّيّ في شرح أبيات الإيضاح، للفارسي: وقبله: يا ليت شعري عن نفسي أزاهقةٌ *** منّي ولم أقض ما فيها من الحاج وأنشده الفارسيّ على أن خبر ليت محذوف. قال ابن برّيّ: والبيت لفريعة بنت همّام، وتعرف بالذلفاء وهي أمّ الحجّاج. انتهى. وقال حمزة الأصبهانيّ في الدّرّة الفاخرة: وأما قولهم أصبّ من المتمنية فإنّ هذا المثل من أمثال أهل المدينة، سار في صدر الإسلام. والمتمنية: امرأة مدينة عشقت فتىً من بني سليم يقال له نصر بن الحجّاج بن علاط، وكان أحسن أهل زمانه صورةً، فضنيت من أجله ودنفت من الوجد به، ثم لهجت بذكره حتّى صار ذكره هجّيراها. فقال أحمد بن أعنم في الفتوح كان السبب في ذلك: أنّ امرأة من أهل المدينة يقال لها الذّلفاء هويت نصر بن الحجّاج، فأرسلت إليه ودعته إلى نفسها، فزجرها ولم يوافقها، فبينا عمر ذات ليلة يعسّ في بعض سكك المدينة إذ سمع نشيد شعرٍ من دار، فوقف يسمع، فإذا الذّلفاء تقول: ألا سبيل إلى خمر فأشربه *** أم لا سبيل إلى نصر بن حجّاج فلما سمع عمر الشعر أمر الذلفاء فأخرجت من منزلها فحسبها، فعلمت الذّلفاء أنّه قد سمعها وهي تنشد الشعر، فكأنها أنفت على نفسها أن يعاقبها، فكتبت إليه: قل للإمام الذي تخشى بوادره الأبيات الآتية فلما نظر عمر في الأبيات أطلقها من الحبس، وأرسل إلى نصر فحلق جمّته، ونفاه إلى البصرة. قال حمزة الأصبهاني: قال النسّابون: هذه المتمنية هي الفريعة بنت همّام، أم الحجّاج بن يوسف الثّقفيّ، وكانت حين عشقت نصراً تحت المغيرة بن شعبة، واحتجوا في ذلك بحديث رووه، وهو أنّ الحجّاج حضر مجلس عبد الملك يوماً، وعروة بن الزّبير يحدّثه ويقول: قال أبو بكر كذا، وسمعت أبا بكر يقول كذا - يعني أخاه عبد الله بن الزّبير - فقال له الحجّاج: عند أمير المؤمنين تكنّي أخاك المنافق، لا أمّ لك! فقال له عروة: يا ابن المتمنية، ألي تقول لا أمّ لك، وأنا ابن إحدى عجائز الجنّة: صفيّة، وخديجة وأسماء، وعائشة!. كذا قال ابن الأثير في المرصّع: ابن المتمنية هو الحجّاج بن يوسف الثّقفيّ، من قول أمّه: ألا سبيل إلى خمر فأشربه *** أم لا سبيل إلى نصر بن حجّاج وقد ذكر خبرها مع نصر جماعةٌ منهم الجاحظ في كتاب المحاسن والمساوي ، وأبو القاسم الزجاجيّ في أماليه الوسطى ، وأبو الحسن علي بن محمد المدائني في كتاب المغرّبين ، وحمزة الأصبهانيّ في أمثاله ، والسهيليّ في الرّوض الأنف ، وإسماعيل بن هبة الله الموصليّ في كتاب غاية السّائل، إلى معرفة الأوائل وقد جمعت بين ما اتفقوا عليه، وبين ما انفردوا به. وقالوا: أوّل من عسّ باللّيل في الإسلام عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فبينا يعسّ ليلةً سمع امرأة تقول: ألا سبيل إلى خمرٍ فأشربه *** أم لا سبيل إلى نصر بن حجّاج إلى فتىً ماجد الأخلاق ذي كرمٍ *** سهل المحيّا كريمٍ غير فجفاج كذا رواهما الجاحظ. وروي المدائني البيت الثاني مع بيتين آخرين لرجل من ولد الحجّاج بن علاط وهما: تنمية أعراق صدق حين تنسبه *** ذي نجداتٍ عن المكروب فرّاج سامي النّواظر من بهزٍ له كرمٌ *** تضيء سنته في الحالك الدّاجي وروى صاحب الأوائل البيت الأوّل: إلى فتىً ماجد الأعراق مقتبلٍ *** تضيء صورته في الحالك الدّاجي نعم الفتى في سواد اللّيل نصرته *** ليائس ولملهوفٍ ومحتاج وزاد المدائنيّ: يا منيةً لم أرب فيها بضائرةٍ *** والنّاس من صادق فيها ومن داجي ثم قال: وقال قومٌ: هذا الشعر مصنوع إلاّ البيت الأول. فقال عمر: من هذه المتمنية؟ فلزمها هذا الاسم، واستلبه نساء المدينة فضربن به المثل وقلن: أصب من المتمنية . وقال الزجاجيّ: لما أنشدت: ألا سبيل إلى خمر فأشربه *** أم لا سبيل إلى نصر بن حجّاج قالت لها امرأة معها: من نصر بن حجّاج؟ قالت: رجلٌ وددت أنّه معي في ليلةٍ من ليالي الخريف في اطول ليلة من ليالي الشتاء وليس معنا أحد! فدعا بها عمر فضربها بالدّرة ضرباتٍ، ثم سأل عنها فلم يخبر عنها إلاّ بخير؛ فلما كان من الغد أرسل إلى نصر بن حجّاج فأحضره، وله شعرة فقال: إنّه ليتمثّل بك ويغني بك! وأمر بشعرته فحلقت، ثم راح إلأيه بالعشيّ فرآه في الحلاق أحسن منه الشّعر، فقال: لا تساكنّي في بلدة، فاختر أيّ البلدان شئت! فكتبت المرأة إلى عمر: البسيط قل للإمام الذي تخشى بوادره *** مالي وللخمّر ونصر بن حجّاج إنّي عنيت أبا حفص بغيرهم *** شرب الحليب وطرف قاصر ساجي لا تجعل الظّنّ حقّ وتيقّنه *** إنا السبيل سبيل الخائف الرّاجي إن الهوى زمه التقوى فخّيسه *** حتّى أقرّ بإلجام وإسراج فبعث إليها عمر: لم يبلغنا عنك إلاّ خير! وقال حمزة: فلما أصبح عمر أحضر المتمنى، فلما رآه بهره جماله فقال له: أنت تتمنّاك الغانيات في خدورهنّ، لا أمّ لك، أما والله لأزيلنّ عنك الجمال! ثم دعا بحجّام فحلق جمّته، ثم تأمّله فقال: أنت محلوقاً أحسن، فقال: وأيّ ذنب لي في ذلك؟ فقال: صدقت، الذنب لي إذا تركتك في دار الهجرة. ثم أركبه جملاً وسيرّه إلى البصرة وكتب به إلى مجاشع بن مسعود السّلميّ: بأنّي قد سيّرت المتمنى نصر بن حجّاج السّلميّ إلى البصرة. وكما قالوا بالمدينة: أصبّ من المتمنية، قالوا بالبصرة: أدنف من المتمنى وذلك أن نصر بن حجّاج لما ورد البصرة أخذ النّاس يسألون عنه ويقولون: أين المتمنى الذي سيّره عمر؟ فغلب هذا الاسم عليه بالبصرة، كما غلب ذلك الاسم على عاشقته بالمدينة. ومن حديث هذا المثل الثاني: أنّ نصراً لما نزل البصرة أنزله مجاشع بن مسعود منزله، من أجل قرابته، وأخدمه امرأته شميلة - وكانت أجمل امرأةٍ بالبصرة - فعلقته وعلقها، وخفي على كلّ واحد منهما خبر الآخر، لملازمة مجاشع لضيفه، وكان مجاشعٌ أميّاً ونصرٌ وشميلة كاتبين، فعيل صبر نصر فكتب على الأرض بحضرة مجاشع: إنّي أحببتك حبّاً لو كان فوقك لأظلّك، وتحتك لأقلك. فوقعت تحته غير محتشمة: وأنا كذلك. فقال مجاشع لها: ما الذي كتب؟ فقالت: كتب كم تحلب ناقتكم. فقال: وما الذي كتبت؟ قالت: كتبت وأنا. فقال مجاشع: ما هذا لهذا بطبق! فقالت: أصدقك، إنّه كتب كم تغلّ أرضكم. فقال مجاشع ما بين كلامه وجوابك هذا أيضاً قرابة! ثم كفأ على الكتابة جفنة ودعا بغلام من الكتّاب فقرأه عليه، فالتفت إلى نصر فقال: يا ابن عمّ ما سيّرك عمر إلى خير، قم فإنّ وراءك أوسع لك. فنهض مستحيياً وعدل إلى منزل بعض السّلمييّن، ووقع لجنبه وضني من حبّ شميلة ودنف، حتّى صار رحمةً، وانتشر خبره فضرب نساء البصرة به المثل فقلن: أدنف من المتمنّى . ثم إنّ مجاشعاً وقف على خبر علّة نصر فدخل عليه عائداً، فلحقته رقّة لما رأى به من الدّنف فرجع إلى بيته وقال لشميلة: عزمت عليك لّما أخذت خبزاً فلبكته بسمن ثمّ بادرت به إلى نصر. فبادرت به إليه فلم يكن به نهوض، فضمّته إلى صدرها وجعلت تلقمه بيدها فعادت قواه وبرأ كأن لم تكن به قلبه، فقال بعض عوّاده: قاتل الله الأعشى حيث قال: السريع لو أسندت ميتاً إلى نحره *** عاش ولم ينقل إلى قابر! فلمّا فارقته عاوده النّكس، ولم يزل يتردّد في علّته حتّى مات منها. كذا قال حمزة وصاحب الأوائل. وقال المدائنيّ: إن عمر لما أخرج نصراً من المدينة إلى البصرة قال نصر: يا أمير المؤمنين أعلمهم أنّك إنّما أخرجتني لهذا الشّعر لا لغيره. وروي عن قتادة أن نصراً لما أتى البصرة دخل مجاشع بن مسعود عائداً له، وعنده شميلة بنت جنادة بن أبي أزيهر فجرى بينهما كلامٌ ولم يفهم منه مجاشع إلاّ كلمةً واحدة من نصر: قال: وأنا. فلما خرج نصرٌ قال لها: ما قال لك؟ قالت: قال لي: كم لبن ناقتكم هذه فأخبرته؛ قال: ما هذا جواب كلامه وأرسل إلى نصر فسأله وأعظم عليه، فقال: قالت لي إنّي أحبّك حبّاً شديداً لو كان فوقك لأظلّك، ولو كان تحتك لأقلّك، فقلت: وأنا. قال: فأنزل لك عنها؟ قال: أذكّرك الله أن يبلغ هذا مع ما فعل بي! وأما حديث العامّة فيقولون: كتبت له في الأرض هذا الكلام، فقال: وأنا، فسمعها مجاشع فلما خرج أكبّ قعباً على الكتاب ودعا من قرأه له. انتهى. وأمّا الزّجّاج فإنّه قال بعد ما قرأ خطّها: ثم التفت إليه فقال: يا أخي، إن يكن الطّلاق ثلاثاً فهي طالقٌ ألفاً! فقال: وهي طالقٌ إن جمعني وإيّاها بيتٌ أبدا! ثمّ ارتحل إلى فارس. وقال في امرأة مجاشع: كانت امرأته يقال لها خضراء بني سليم، وكانت من أجمل النساء. وهي أوّل من لبس الشّفوف. وحكى السّهيليّ في الروض الأنف هذه الحكاية على خلاف ما تقدّم قال: الحجّاج بن علاط وهو والد نصر الذي حلق عمر رأسه ونفاه من المدينة، فأتى الشام فنزل على أبي الأعور السّلميّ، فهويته امرأته وهويها، وفطن أبو الأعور لذلك بسببٍ يطول ذكره، فابتنى له قبّة في أقصى الحيّ فكان بها، فاشتدّ ضناه بالمرأة حتّى مات كلفاً بها، وسميّ المضنى، وضربت به الأمثال. وذكر الأصبهانيّ في كتاب الأمثال له خبره بطوله. انتهى. قال المدائنيّ وصاحب الأوائل: وبعد أن أقام نصرٌ بالبصرة حولاً كتب إلى عمر رضي الله عنه: الطويل لعمري لئن سيّرتني وحرمتني *** وما نلت ذنباً إنّ ذا لحرام ومالي ذنبٌ غير ظنٍّ ظننته *** وفي بعض تصديق الظّنون أثام أأن غنّت الحوراء ليلاً بمنيةٍ *** وبعض أمانيّ النّساء غرام ظننت بي الظّنّ الذي ليس بعده *** بقاءٌ ومالي في النّديّ كلام وأصبحت منفيّاً على غير ريبةٍ *** وقد كان لي بالمكّتين مقام ويمنعني ممّا تظنّ تكرّمي *** وآباء صدقٍ سالفون كرام ويمنعها ممّا تمنّت صلاحه *** وطول قيامٍ ليلها وصيام فهاتان حالانا فهل أنت راجعي *** وقد جبّ منّي كاهلٌ وسنام قال الجاحظ: ردّه عمر بعد هذه الأبيات لما وصف له من عفّته. وقال صاحب الأوائل: فلما وصلت الأبيات إلى عمر ونظر فيها كتب إلى أبي موسى الأشعريّ وأمره بالوصاة به إن أحبّ أن يقيم بالبصرة، وإن أحبّ الرّجوع إلى المدينة فذاك إليه. قال: فاختار الفتى المقام بالبصرة، فلم يزل مقيماً بها إلى أن خرج أبو موسى إلى محاربة أهل الأهواز، فخرج معه نصر بن حجّاج في الجيش، وحضر معه فتح تستر. انتهى. وروى الزجّاجيّ في أماليه أن نصراً أرسل هذه الأبيات إلى عمر حين نفاه إلى البصرة، فبعث إليه عمر: أن لا رجعة. فارتحل إلى البصرة فنزل على مجاشع إلى آخر الحكاية. هذا ما طلّعت عليه، ولا يخفى ما فيه من جميع الجهات حتى في البيت الشاهد، فالرواية المتقدمة هي رواية الجاحظ وحمزة الأصبهانيّ والسّهيليّ. وروى المدائنيّ: هل من سبيلٍ إلى خمرٍ فأشربه *** أم من سبيلٍ إلى نصر بن حجّاج وروى صاحب الأوائل: هل من سبيلٍ إلى خمر فأشربه *** أم هل سبيلٌ إلى نصر بن حجّاج وهاتان الرّوايتان لا يناسبان تسمية المرأة بالمتمنّية، وتسمية نصر بالمتمنّى. وروى الزّجاجيّ المصراع هكذا: أم هل سبيل إلى نصر بن حجّاج ورواه أبو عليّ الفارسيّ في إيضاح الشعر عن أبي عبيدة: ولا سبيل إلى نصر بن حجّاج على أنّ وبمعنى الواو. قال: تمنّتهما جميعاً، وجعله مثل وفي قوله: وكان سيّان ألاّ يسرحوا عنم *** ويسرحوه بها واغبرّت السّوح وأشربها منصوب بأن مضمرة بعد الفاء في جواب التّمنّي. وأنشد بعده: الوافر ألا رجلاً جزاه الله خير *** يدلّ على محصّلةٍ تبيت على أنّ يونس قال: أصله ألا رجل، فنوّن للضرورة، وألا عنده فيه للتّمنّي. وعند الخليل ليست للتمنّي وإنّما هي للتحضيض، ورجلاً منصوب بفعل محذوف تقديره: ألآ ترونني رجلاً، بضم تاء ترونني. وقد تقدم شرح هذا البيت مفصّلاً في الشاهد الثالث والستين بعد المائة. وفي هذا البيت تضمين لأن خبر تبيت في بيت بعده وهو: ترجّل لمّتي وتقمّ بيتي *** وأعطيها الإتاوة إن رضيت وأنشد بعده: وهو
|